فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



تنبيه:
قال الرازي: إنه عليه السلام كان رحمة في الدين وفي الدنيا. أما في الدين فلأنه بعث والناس في جاهلية وضلالة وأهل الكتابين كانوا في حيرة من أمر دينهم لطول مكثهم وانقطاع تواترهم ووقوع الاختلاف في كتبهم. فبعث الله تعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم حين لم يكن يطالب الحق سبيل إلى الفوز والثواب. فدعاهم إلى الحق وبين لهم سبيل الثواب، وشرع لهم الأحكام وميز الحلال من الحرام. ثم إنما ينتفع بهذه الرحمة من كانت همته طلب الحق، فلا يركن إلى التقليد ولا إلى العناد والاستكبار، وكان التوفيق قرينًا له. قال الله تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ} [فصلت: 44] إلى قوله تعالى: {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً} [فصلت: 44]، وأما في الدنيا فلأنهم تخلصوا بسببه من كثير من الذل والقتال والحروب، ونصروا ببركة دينه. انتهى.
وقد أشرت إلى وجه الرحمة في بعثته صلوات الله عليه، في الشذرة التي جمعتها في سيرته الزكية، في بيان افتقار الناس جميعًا إلى رسالته، فقلت: كل من لحظ بعين الحكمة والاعتبار، ونفذت بصيرته إلى مكنون الأسرار، علم حاجة البشر كافة إلى رسالة خاتم النبيين، وأكبر منة الله به على العالمين، فقد بعث صلوات الله عليه وسلامه على حين فترة من الرسل، وإخافة للسبل، وانتشار من الأهواء، وتفرق من الملل، ما بين مشبه لله بخلقه، وملحد في اسمه، ومشير إلى غيره، كفر بواح، وشرك صراح، وفساد عام، وانتهاب للأموال والأرواح واغتصاب للحقوق، وشن للغارات، ووأد للبنات وأكل للدماء والميتات، وقطع للأرحام، وإعلان بالسفاح، وتحريف للكتب المنزلة، واعتقاد لأضاليل المتكهنة. وتأليه للأحبار والرهبان، وسيطرة من جبابرة الجور وزعماء الفتن وقادة الغرور، ظلمات بعضها فوق بعض، وطامات طبقت أكناف الأرض، استمرت الأمم على هذه الحال، الأجيال الطوال، حتى دعا داعي الفلاح، وأذن الله تعالى بالإصلاح. فأحدث بعد ذلك أمرًا، وجعل بعد عسر يسرًّا. فإن النوائب إذا تناهت انتهت، وإذا توالت تولّت. وذلك أن الله تعالى أرسل إلى البشر رسولًا ليعتقهم من أسر الأوثان، ويخرجهم من ظلمة الكفر وعمى التقليد إلى نور الإيمان، وينقذهم من النار والعار، ويرفع عنه الآصار، ويطهرهم من مساوئ الأخلاق والأعمال، ويرشدهم إلى صراط الحق. قال تعالى: {وما أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} وقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عِمْرَان: 164]. انتهى. وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إلى أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} أي: ما يوحى إلى، إلاّ استئثاره تعالى بالوحدانية في الألوهية. ومعنى القصر على ذلك، أنه الأصل الأصيل، وما عداه راجع إليه في جنبه. فهو قصر دعائي: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} أي: منقادون لما يوحى من التوحيد، مستسلمون له. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)}.
أظهر الأقوال عندي في هذه الآية الكريمة: أن الزبور الذي هو الكتاب يراد به جنس الكتاب فيشمل الكتب المنزلة، كالتوراة والإنجيل، وزبور داود، وغير ذلك. وأن المراد بالذكر: أم الكتاب، وعليه فالمعنى: ولقد كتبنا في الكتب المنزلة على الأنبياء أن الأرض يرثها عبادي الصالحون بعد أن كتبنا ذلك في أم الكتاب. وهذا المعنى واضح لا إشكال فيه. وقيل الزبور في الآية: زبور داود، والذكر: التوراة. وقيل غير ذلك. وأظهرها هو ما ذكرنا واختاره غير واحد.
واعلم أن قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أن الآية قد يكون فيها قولان للعلماء، وكلاهما حق ويشهد له قرآن فتذكر الجميع. لأنه لكه حق داخل في الآية. ومن ذلك هذه الآية الكريمة، لأن المراد بالأرض في قوله هنا {أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون} فيه للعلماء وجهان:
الأول أنها أرض الجنة يورثها الله يوم القيامة عباده الصالحين. وهذا القول يدل له قوله تعالى: {وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نشاء فَنِعْمَ أَجْرُ العاملين} [الزمر: 74] وقد قدمنا معنى إيراثهم الجنة مستوفى في سورة مريم.
الثاني أن المراد بالأرض: أرض العدو يورثها الله المؤمنين في الدنيا: ويدل لهذا قوله تعالى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب: 27]، وقوله: {وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا} [الأعراف: 137] الآية، وقوله تعالى: {قَالَ موسى لِقَوْمِهِ استعينوا بالله واصبروا إِنَّ الأرض للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128]، وقوله تعالى: {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ} [النور: 55] الآية، وقوله تعالى: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فأوحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلَكِن الظالمين وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرض مِن بَعْدِهِمْ} [إبراهيم: 13- 14] إلى غير ذلك من الآيات. وقرأ هذا الحرف عامة القراء غير حمزة {فِي الزبور} بفتح الزاي ومعناه الكتاب. وقرأ حمزة وحده فِي الزُّبُورِ بضم الزاي. قال القرطبي: وعلى قراءة حمزة فهو جمع زبر. والظاهر أنه يريد الزبر بالكسر بمعنى المزبور أي المكتوب. وعليه فمعنى قراءة حمزة: ولقد كتبنا في الكتب: وهي تؤيد أن المراد بالزبور على قراءة الفتح جنس الكتب لا خصوص زبور وداود كما بينا. وقرأ حمزة {يَرِثُها عِبَادِيْ} بإسكان الياء، والباقون بفتحها.
{إِنَّ فِي هذا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106)}.
الإشارة في قوله: {هذا} للقرآن العظيم، الذي منه هذه السورة الكريمة. والبلاغ: الكفاية، وما تبلغ به البغية. وما ذكره هنا من أن هذا القرآن فيه الكفاية للعابدين، وما يبلغون به بغيتهم، أي من خير الدنيا والآخرة ذكره في غير هذا الموضع. كقوله: {هذا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وليعلموا أَنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الألباب} [إبراهيم: 52] وخص القوم العابدين بذلك لأنهم هم المنتفعون به.
{وما أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه ما أر سل هذا النَّبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه إلى الخلائق إلا رحمة لهم. لأنه جاءهم بما يسعدهم وينالون به كل خير من خير الدنيا والآخرة إن اتبعوه. ومن خالف ولم يتبع فهو الذي ضيع على نفسه نصيبه من تلك الرحمة العظمى. وضرب بعض أهل العلم لهذا مثلًا قال: لو فجر الله عينًا للخلق غزيرة الماء، سهلة التناول. فسقى الناس زروعهم ومواشيهم بمائها. فتتابعت عليهم النعم بذلك، وبقي أناس مفرطون كسالى عن العمل. فضيعوا نصيبهم من تلك العين، فالعين المفجرة في نفسها رحمة من الله، ونعمة للفريقين. ولَكِن الكسلان محنة على نفسه حيث حرمها ما ينفعها. ويوضح ذلك قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار} [إبراهيم: 28]. وقيل: كونه رحمة للكفار من حيث إن عقوبتهم أخرت بسببه، وأمنوا به عذاب الاسئتصال. والأول أظهر.
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة: من أنه ما أرسله إلا رحمة للعالمين يدل على أنه جاء بالرحمة للخلق فيما تضمنه هذا القرآن العظيم. وهذا المعنى جاء موضحًا في مواضع من كتاب الله، كقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب يتلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلك لَرَحْمَةً وذكرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 51]، وقوله: {وما كُنتَ ترجوا أَن يلقى إِلَيْكَ الكتاب إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} [القصص: 86] الآية.
وقد قدمنا الآيات الدالة على ذلك في سورة الكهف في موضعين منها. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله قال: قيل: يا رسول الله، ادع على المشركين. قال: «إني لم أبعث لعانًا وإنما بعثت رحمة». اهـ.

.قال عبد الكريم الخطيب:

{وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرض يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرض يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ}..
المراد بالزّبور هنا- واللّه أعلم- الكتب السماوية، التي هي بعض الكتاب الأم، كتاب اللّه، وهو مستودع علمه الذي لا ينفد..
وأصل الزبور: القطعة من الشيء وجمعه زبر، كما يقول تعالى: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} والذكر: على هذا التقدير، هو أم الكتاب.
والمعنى، أن اللّه سبحانه وتعالى كتب وقضى في الكتب المنزلة على رسله بعد أن كان ذلك مسطورا في الكتاب الأمّ- {أَنَّ الأرض يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ}.. والمراد بميراثهم الأرض، أنهم هم الذين ينتفعون بحياتهم فيها، ويتزودون فيها الزاد الطيب، الذي يلقونه يوم القيامة، فيكون لهم مطية يجوزون بها النار إلى الجنة، حيث ينعمون ينعيمها الخالد.. فهذا كلّ ما يجنى من ثمر، وما يحصل من خير في هذه الدنيا، وهو الذي يستحقّ أن يسمى ميراثا.. أما غير المؤمنين، فإنهم مهما ملكوا من هذه الدنيا، ومهما وقع لأيديهم منها من مال، وجاهـ. وسلطان- فلن يكون لهم من هذا شيء في حياتهم الآخرة، بل سيكون عليهم وبالا وحسرة، على حين تمر بهم حياتهم الدنيا، وكأنها ضحوة يوم أو عشيته.. {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها}. (46: النازعات).
فالمراد بالميراث هنا، الميراث النافع، الذي يبقى لما بعد الموت، حيث يجده الإنسان، وكأنه في حياته الثانية، قد ورث حياته الأولى.. أو كأنه هذا الحىّ في الآخرة، الذي ورث هذا الميت الذي كان في الدنيا.. وهذا هو بعض السرّ في التعبير بكلمة {يَرِثُها}..
قوله تعالى: {إِنَّ فِي هذا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عابِدِينَ}..
أي إن في هذا الذي تحدّث به القرآن الكريم من قصص، وما فيه من عبر- لبلاغا، أي لبيانا كاشفا شافيا.. أو أن في هذا الحكم الذي ضمّت عليه الآية الكريمة: {وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ}- إن في هذا لبيانا مبينا وحجة قاطعة، يتلقى منها العابدون العبرة والعظة.
والمراد بالعابدين، المؤمنون، وقد ذكروا بالصفة الغالبة عليهم، وهى التعبد للّه، والولاء له.. فلا يكون المؤمن مؤمنا إلا إذا عبد اللّه، وذكره، ذكرا متصلا..
قوله تعالى: {وما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ}.
الخطاب للنبىّ صلوات اللّه وسلامه عليه، وأن اللّه سبحانه وتعالى إنما أرسله رحمة للناس جميعا.. كما يقول صلوات اللّه وسلامه عليه: «أنا رحمة مهداة»..
ويسأل سائل:
كيف يكون النبىّ صلوات اللّه وسلامه عليه رحمة للعالمين جميعا. الناس كلّهم أسودهم وأحمرهم، وما بين أسودهم وأحمرهم، وقليل من كثيرهم أولئك الذين آمنوا به واهتدوا بهديه، وانتفعوا برسالته؟ كيف هذا، وقوله تعالى: {لِلْعالَمِينَ} يفيد العموم والشمول؟
والجواب على هذا- واللّه أعلم- من وجوه:
أولا: أن الهدى الذي جاء به- صلوات اللّه وسلامه عليه- هو خير ممدود للناس جميعا، وهو رحمة غير محجوزة عن أحد، بل إنها مبسوطة لكل إنسان، أيّا كان لونه وجنسه.. وفى هذا يقول اللّه تعالى لنبيه الكريم:
{قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالأرض لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [158: الأعراف] فهو صلوات اللّه وسلامه عليه رحمة مهداة، يطرق بها باب كل إنسان، من غير أن يطلب لذلك أجرا، وليس على النبي- بعد هذا- أن يرغم المتأبّين عليه أن يقبلوا ما يقدمه هدية لهم.. إنه أشبه بالشمس، وهى رحمة عامة لكل حىّ.. ولَكِن كثيرا من الأحياء يعشون عن ضوئها، وكثير من الأحياء، إذا آذنهم ضوؤها انجحروا وقضوا يومهم في ظلام دامس.. فآية النهار قائمة، ولَكِنها بالنسبة لهم منسوخة غير عاملة.
وثانيا: أن الذين آمنوا بهذا النبىّ، والذين يؤمنون به في كل جيل من أجيال الناس، وفى كل أمة من الأمم، وفى كل جماعة من الجماعات، هم رحمة في هذه الدنيا على أهلها جميعا، إذ كانوا- بما معهم من إيمان- عناصر خير، وخمائر رحمة، ومصابيح هدى.. وبهم تنكسر ضراوة الشر، وتخفّ وطأة الظلم، وترقّ كثافة الظلام.
وثالثا: هذا الكتاب الذي تلقّاه النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- وحيا من ربّه، وهذه الآيات المضيئة التي نطق بها، والتي وعتها الآذان، وسلجتها الصحف.. كل هذا رحمة قائمة في الناس جميعا، وميراث من النور والهدى، يستهدى به الناس، ويصيبون منه ما يسع جهدهم، وما تطول أيديهم من خير..
وعلى هذا، فالمراد بالعالمين، الناس جميعا، منذ مبعث النبىّ، إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {أَرْسَلْناكَ} الذي يفهم منه أن الرحمة كانت منذ إرساله ومبعثه، صلوات اللّه وسلامه عليه..
قوله تعالى: {قُلْ إِنَّما يُوحى إلى أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}.
هذه هي الرحمة التي يؤذّن بها النبىّ في الناس، ويقدمها هدية لهم..
{أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ}.. هذا هو مفتاح الرحمة، وذلك هو مفتاح الهدى.. فمن أمسك بقلبه هذا المفتاح، ثم أداره، فقد وضع يده على كنوز الخير كلها..
ـ وفى قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}.. هو تحريض للناس جميعا على الاستجابة لهذه الدعوة الكريمة، التي خفّف محملها، وغلا ثمنها.. إنها كلمة واحدة: لا إله إلا اللّه فما أخفها على اللسان، وما أطيب بردها على القلب، وما أقوم سبيلها إلى العقل!! فهل يلتوى بها فم؟ وهل يضيق بها صدر؟
وهل يزورّ بها عقل؟ إن ذلك لا يكون إلا عن آفات تغتال فطرة الإنسان، وتفسد كيانه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ}.
إن كان المراد بالأرض أرض الجنة كما في قوله تعالى في [سورة الزمر: 73-74] {وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرًا} إلى قوله تعالى: {وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء} فمناسبة ذكر هذه الآية عقب التي تقدمتها ظاهرة.
ولها ارتباط بقوله تعالى: {أفلا ترون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها} [الأنبياء: 44].
وإن كان المراد أرضًا من الدنيا، أي مَصيرَها بيدِ عباد الله الصالحين كانت هذه الآية مسوقة لوعد المؤمنين بميراث الأرض التي لَقُوا فيها الأذَى، وهي أرض مكة وما حولها، فتكون بشارة بصلاح حالهم في الدنيا بعد بشارتهم بحسن مآلهم في الآخرة على حد قوله تعالى: {من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} [النحل: 97].